معظم السوريين يعلمون بان عماد الحكم في سوريا منذ الثمانينيات يقوم على ركيزتين.. عائلتين.. عائلة مخلوف والاسد.
وطالما كان محمد مخلوف الرجل صاحب النفوذ الاكبر الذي يتحكم بالامور من وراء الستار وبشراكة تامة مع الرئيس السابق حافظ الاسد، استطاعت هذه "التركيبة" ان تسيطر على كل مفاصل القوة في سوريا.
طبعا تركيبة الحكم في سوريا ليست بهذه البساطة، فقد نسج النظام تركيبة معقدة للغاية تتوزع فيها المنافع على "الاقطاعيين" كل في قطاعه، ويتم اطلاق يد الاقطاعي في حصته من "المزرعة" لجني المنافع وتقاسمها مع النظام صاحب الملك ، بشرط الولاء المطلق غير المشروط.
ولكن لا يسمح لاحد ان يسطع اكثر من الشمس، وشمس سوريا الاقتصادية كانت عائلة مخلوف، فيما مسك حافظ الاسد كل مفاصل القوى العسكرية والامنية والسلطات الثلاث في يده بطريقة مركزية قل مثيلها في التاريخ حتى في عصور الملوك والسلاطين.
عزز الاسد من تواجد الضباط العلويين في الجيش والامن وهذا معروف، وان كان لا يتم الحديث عنه بشكل علني مباشر ولكن كل السوريين يعرفون هذا.
وان كان في بعض المواقع الحساسة ضباط من طائفة اخرى، فانه عادة ما يعين ضابط علوي في منصب النائب ويكون له الكلمة الفصل بطبيعة الحال.
طبعا حافظ الاسد لم يفعل هذا حبا في الطائفة، ولكن ليزج فيها في معركة وجودية ترتبط فيه مباشرة وتقوي موقعه، وتتمثل رؤيته ببساطة بتوريط العلويين باغتصاب معظم المناصب في الدولة والاستحواذ على الحصة الاكبر من المكاسب بشكل واضح وفج وكثير من الاحيان وقح، وذلك لاثارة النقمة بين باقي مكونات الشعب عليهم، وفي المقابل قمع هذه النقمة عندما تريد ان تتحول لفعل يعيد التوزيع العادل للثروة والسلطة، بالعنف.
فكانت هذه المعادلة الشيطانية "النقمة المقموعة بالعنف" تجعل مصير الطائفة معلقاً بشكل كامل بشخص الرئيس، وهذا استمر بعد رحيل حافظ الاسد في حكم بشار الاسد بنفس الطريقة.
طبعا لا نقول بان كل من في السلطة وكل من استفاد هو من الطائفة العلوية، هذا ليس صحيحا ايضا فقد حرص حافظ الاسد ومعه مخلوف كما ذكرت اعلاه على ابقاء الاقطاعيين كل في منطقته بحسب تركيبتها الاولية، اقطاعات عائلية، عشائرية، طائفية، مافيوية.. على رأس كل منها شخص يدين للرئيس بالولاء المطلق ويعمل على ضبط "اقطاعيته" بحسب اوامر ومخططات الرئيس "الملك" وبما يخدم مصالحه.
وايضا لا يمكن ان نقول بان كل علوي استفاد من هذه المعادلة، ايضا هذا خطأ فادح، فقد بقي اكثر العلويين يعيشون في حالة من الفقر والعوز، وصاحب الحظ منهم حصل على مكاسب بسيطة (فتات) تتمثل في وظيفة، رخصة، تنفيعة.. لا تكاد تسد رمقه ولا تصل به الى ان يكون من الطبقة الوسطى حتى.
ولكن رأس الهرم، شراكة السلطة والمال، الامن والعسكر.. كلها كانت على مدى 50 عاما ضمن نفوذ اشخاص ينتمون للطائفة العلوية.
تغير الوضع مع وصول النظام على حافة الهاوية، مع اقترابه من الانهيار، وكان التدخل الروسي الذي حمى النظام من السقوط وثبته، ولكن ثبته على حافة الهاوية، هو لم يساعده على الابتعاد عن الخطر ولم يتركه يقع في حفرة النهاية.
والتدخل الروسي بحسب ما اعتقد ما كان ليكون قرارا روسيا منفردا، على الاقل يمكن ان نقول لا يمكن ان تقرر روسيا في سوريا بشكل منفرد، لن يتنازل احد عن نفوذه في هذه الارض التي اصبحت ارضا مفتوحة، فكان لا بد للروس من ان ينسقوا بشكل كامل مع الولايات المتحدة وتركيا وايران واسرائيل.
لا احد يعرف ما الخطة، ما الذي تم الاتفاق عليه فيما يتعلق بمصير هذا البلد المنكوب، ولكن يمكن من خلال سياق الاحداث ان نخمن معالم الخطة..
برز في السنوات القليلة الماضية اسم اسماء الاسد، بشكل يتجاوز ما يمكن ان تلعبه "السيدة الاولى"، برزت اسماء الاسد كمركز قوة منفصل عن زوجها وبات التباين بين الموقعين واضحاً مع الزمن اكثر فاكثر.
بدأت السيدة الاسد بالتمدد وتثبيت مراكز نفوذ خارجة عن سيطرة المنظومة المعروفة، بدأت بوضع اليد على بعض المفاصل وكان قرارها يبدو مستقلا الى حد كبير عن قرار الرئيس بشار الاسد.
واذا كانت الشكوك تحوم حول هذه القراءة في السابق الا ان المعركة الاخيرة بينها وبين ال مخلوف وانتصارها عليهم ونجاحها الى حد كبير في ان تحل مكانهم يدعم نظرية وجود دور هام لها في مستقبل سوريا.
بعد اندلاع "الثورة" السورية والنتائج التي آلت اليها نتيجة التدخلات الاقليمية والدولية، لم يعد استمرار حكم" علوي" في سوريا ممكناً.. لا يمكن ان يعيد بشار الاسد السيطرة على الارض (او ماتبقى منها) من خلال ذات الفلسفة التي حكم فيها "مخلوف الاسد" في الخمسين عاما الماضية، يجب على هذه الفلسفة ان تتغير.. يجب على موازين القوى ان تتغير..
فاطفاء نار الحريق لن يكون الا بإعادة المكون السني ليكون له دوراً فاعلاً في تقرير مستقبل البلاد، واذا كان اقصاء العلويين تماما والاطاحة بالنظام بمثل النموذج الليبي او العراقي او اليمني من خلال تغليب فصائل متشددة على النظام وتمكينهم من استلام الحكم من الخطورة بحيث انه يهدد وجود كل الاقليات في المنطقة (حتى خارج الحدود السورية) فان الحل يبقى في تفكيك آلية سيطرتهم الى اجزاء، والقيام باستبدال بعض هذه الاجزاء لاعادة التوزان، وربما تغليب تمثيل "الاكثرية" في السلطة بدون اقصاء الاقليات..
هي معادلة صعبة.. ولكني اجد بانها تتقدم مع الزمن بشكل مثير للدهشة..
فاسماء الاسد المنحدرة من عائلة سنية اليوم باتت تتمتع بسلطة لم تتمتع بها شخصية سنية قبلا خلال نصف القرن الماضي، صحيح انها محسوبة على النظام ولكن في حسابات المجتمع السوري ومع الزمن وفي حال نجاحها في كسر الطوق القديم وادخال شخصيات تنتمي للاكثرية السنية في سوريا الى دائرة القرار وهي جالسة على رأس المائدة امر لا بد بانه سيكون بداية تغيير كبير في النفوذ في سوريا..
قد يبدأ باسماء الاسد ولا ينتهي بها.. قد يكون امر لا يرضي "الثورة"و لا "الثوار" ولكنه قد يشكل رؤية القوى صاحبة النفوذ في تشكيل مستقبل المنطقة.. باعادة الاستقرار لها المشروط ببقاء مفاتيح هذا الاستقرار بيدها..
نضال معلوف